بسم الله الرحمن الرحيم
هل يجب ختان الإناث ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
الأصل في الخطاب بالأحكام التكليفية أنَّه يشمل الذكر و الأنثى ، و لا يجوز تخصيصه أو تقييده أو الاستثناء منه إلا بدليل .
و من الأحكام الشرعية التي جاءت مطلقةً غير مقيَّدة مسألة الختان ، و هي مسألة دقيقة ليس في نصوص الشريعة أمرٌ بها بصيغة قاطعة الدلالة على الوجوب ، و لكنَّها مذكورة في خصال الفطرة التي أرشدت الشريعة إلى اعتبارها .
فقد روى مسلم و غيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( الفطرة خمسٌ – أو قال : خمسٌ من الفطرة - الختان ، و الاستحداد ، و تقليم الأظفار ، و نتف الإِبِط ، و قصُّ الشارب ) .
و ما جاء من ذكرٍ للختان في خصال الفطرة استدلَّ به العلماء على ما ذهبوا إليه في حكم الختان للذكر و الأنثى ، و لهم في ذلك ثلاثة أقوال مشهورة ، فيما يلي بيانها :
القول الأوَّل : و هو إيجاب ختان الذكر و الأنثى على حدٍّ سواء ، و إليه ذهب الشافعية و الحنابلة ، و هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية [ في مجموع الفتاوى : 21 / 114 ] ، و تلميذه ابن قيم الجوزية ، و القاضي أبو بكر بن العربي من المالكية رحمهم الله جميعاً .
قال الإمام النووي رحمه الله [ في المجموع : 1 / 367 ، 368 ] : ( الختان واجب على الرجال و النساء عندنا ، و به قال كثيرون من السلف ، كذا حكاه الخطَّابيُّ ، و ممن أوجبه أحمد ... و المذهب الصحيح المشهور الذي نص عليه الشافعي رحمه الله و قطع به الجمهور أنه واجب على الرجال و النساء ) .
و قال البهوتي الحنبلي [ في كشاف القناع : 1 / 80 ] : ( و يجب ختان ذكرٍ ، و أنثى ) .
و قال الحافظ ابن حجر [ في الفتح : 10 / 340 ] : ( و أغرب القاضي أبو بكر بن العربي فقال عندي أن الخصال الخمس المذكورة في هذا الحديث كلها واجبة فإن المرء لو تركها لم تبق صورته على صورة الآدميين فكيف من جملة المسلمين كذا قال في شرح الموطأ ) .
القول الثاني : و هو أنَّ الختان سنَّةٌ في حقِّ الذكر و الأنثى على حدٍّ سواء ، و هو مذهب الحسن البصري ، و إليه ذهب الحنفية ، و مالك ، و هو رواية عن أحمد .
قال ابن جزي [ في القوانين الفقهية : 1 / 129 ] : ( أما ختان الرجل فسنة مؤكدة عند مالك و أبي حنيفة كسائر خصال الفطرة التي ذكر أنها واجبة اتفاقاً ) .
و قال الإمام النووي رحمه الله [ في المجموع : 1 / 367 ] بعد أن قرر وجوب الختان على الجنسين في مذهب الشافعية ، و عزا القول به للإمام أحمد رحمه الله ، و جمهور السلف : ( ... قال مالك و أبو حنيفة : سنة في حق الجميع ، و حكاه الرافعي وجهاً لنا – أي للشافعية - و حكى وجهاً ثالثاً : أنه يجب على الرجل و سنة على المرأة ) .
و قال صاحب الدر المختار [ 6 / 751 ] رحمه الله : ( الأصل أن الختان سنة كما جاء في الخبر ، و هو من شعائر الإسلام و خصائصه ؛ فلو اجتمع أهل بلدة على تركه حاربهم الإمام ، فلا يترك إلا لعذر ... و ختان المرأة ليس سنة بل مكرمة للرجال و قيل سنة ) .
و قوله مكرمة للرجال ؛ أي مما يفعل لأجل من يحل له الإفضاء إلى المرأة منهم ، إذن إن المرأة تكرم بعلها بالتزين و التهيؤ له بما يحب ، و من ذلك الخفاض .
و قال ابن عابدين الحنفي رحمه الله [ في حاشيته : 6 / 751 ] : ( و في كتاب الطهارة من السراج الوهاج : اعلم أن الختان سنة عندنا – أي عند الحنفية - للرجال و النساء ) .
القول الثالث : و هو أنَّ الختان واجب متعيِّنٌ على الذكور ، مكرمةٌ مُستحبَّةٌ للنساء ، و هو قول ثالث للإمام أحمد ، و إليه ذهب بعض المالكيَّة كسحنون ، و اختاره الموفق ابن قدامة في المغني .
قال ابن عبد البر المالكي رحمه الله [ في التمهيد : 21 / 60 ] : ( أجمع العلماء على أن إبراهيم عليه السلام أول من اختتن و قال أكثرهم : الختان من مؤكدات سنن المرسلين ، و من فطرة الإسلام التي لا يسع تركها في الرجال ، و قالت طائفة : ذلك فرض واجب ... قال أبو عمر : ذهب إلى هذا بعض أصحابنا المالكيين إلا أنه عندهم في الرجال ... و الذي أجمع المسلمون عليه الختان في الرجال على ما و صفنا ) .
و قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله [ في المغني : 1 / 63 ] : ( فأما الختان فواجب على الرجال و مكرمة في حق النساء ، و ليس بواجب عليهن ، هذا قول كثير من أهل العلم ) .
و تتميماً للفائدة أرى من المناسب – و لو أطلت على الأخ السائل قليلاً – لأهمية هذا الموضوع و تكرار طرقه في هذه الأيام أن أسرد على سبيل الإيجاز أدلة أصحاب كل قول مما تقدم ذكره فأقول مستعيناً بمولاي تعالى :
أدلَّة القائلين بوجوب ختان الجنسين :
أوَّلاً : قوله صلى الله عليه و سلم لرجل أسلم : ( ألق عنك شعر الكفر و اختتن ) ، رواه أبو داود و أحمد و إسناده ضعيف .
ثانياً : روى الحاكم [ في مستدركه : 2 / 266 ] بإسناد قال عنه : على شرط الشيخين و لم يخرجاه ، و أقرَّه الذهبي ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عزّ و جل : ( وَ إِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) [ البقرة : 124 ] ، قال : ( ابتلاه الله بالطهارة ؛ خمسٍ في الرأس ، و خمسٍ في الجَسَد . في الرأس : قص الشارب ، و المضمضة ، و الاستنشاق ، و السواك ، و فرق الرأس . و في الجسد : تقليم الأظافر ، و حلق العانة ، و الختان ، و نتف الإبط ، و غسل مكان الغائط ، و البول بالماء ) .
ثالثاً : حديث اختتن إبراهيم بعد ما أتت عليه ثمانون سنة . متفق عليه .
و وجه الدلالة في أثر ابن عباس رضي الله عنهما ، و حديث ختان إبراهيم الخليل عليه السلام مترتب على وجوب اتِّباع سنَّة خليل الرحمن ، لقوله تعالى : ( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَ مَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ) [ النحل : 123 ] ، و لا شك أن هذا الأمر يتعدى النبي صلى الله عليه و سلَّم إلى أمَّته ، إذ لا قرينة على تخصيصه به .
رابعاً : قول النبي صلى الله عليه و سلم : ( إذا جلس بين شعبها الأربع – أي أطرافها – و مسَّ الختان الختان فقد وجب الغُسْلُ ) رواه الشيخان و غيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه ، و روى مالك في الموطأ نحوه بإسنادٍ صحيح عن عائشة رضي الله عنها .
و وجه دلالة هذا الحديث على المراد هو ذكر الختانين ؛ أي ختان الزوج و ختان الزوجة ؛ فدل بذلك على أن المرأة تختن كما يختن الرجل .
قلت : و لا يمنع من الاستدلال بهذا الحديث كون التقاء الختانين ليس شرطاً لتمام الجماع ، بل قد لا يقع أصلاً ، لأن المقصود هو مجاوزة ختان الرجل ختان المرأة أو محاذاته في موضع الحرث – كما هو مبسوط في أبواب الطهارة من كتب الفقه - لأن الاستدلال قائم بمجرد ذكر ختان المرأة في مقابل ختان الرجل فلزم منه أن يكونا في الحكم سواء .
قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم : ( قال العلماء : معناه غيبت ذكرك في فرجها ، و ليس المراد حقيقة المس ، و ذلك أن ختان المرأة أعلى الفرج ، و لا يمسه الذكر في الجماع ، و المراد بالمماسة : المحاذاة ) .
خامساً : تشديد السلف الصالح رضوان الله عليهم في الختان ، و ما كان لهم أن يفتئتوا على الشريعة ، أو يقولوا على الله بغير علم ، فلو لم يكن واجباً لما كان ثمة معنى لما روى الإمام أحمد من تشديد ابن عباس في أمر الختان أنه لا حج لمن لم يختتن و لا صلاة [ انظر : المغني ، لابن قدامة : 1 / 63 ] ، و نحوه ما رواه البيهقي [ في السنن الكبرى : 8 / 325 ] عنه رضي الله عنه ، أنه قال : ( لا تقبل صلاة رجل لم يختتن ) ، قال البيهقي : و هذا يدل على أنه كان يوجبه ، و أن قوله : ( الختان سنة ) أراد به سنة النبي صلى الله عليه و سلم الموجَبَة ) .
و قال الإمام مالك رحمه الله : ( من لم يختتن لم تجز إمامته ، و لم تقبل شهادته ) [ ذكره الشوكاني ، في نيل الأوطار : 1 / 139 ] .
و قال عطاء [ كما في فتح الباري 10 / 340 عنه ] : ( لو أسلم الكبير لم يتم إسلامه حتى يختن ) .
قالوا : فلو لم يكن الختان واجباً ، لما كان لهذا التشديد على من تركه وجه ، و إذا ثبت وجوبه فلا بد من دليل لصرف الوجوب إلى الذكر دون الأنثى ، و ليس ثمة دليل على ذلك .
أما من قال بسنِّية الختان في حقِّ الجنسين و لم يوجبه على أحدهما فلم ير في النصوص التي استدل بها موجبوه أمراً صريحاً يوجب الختان على ذكرٍ أو أنثى ، و ردوا على المخالف بمثل قولهم :
أولاً : لا يصح الاستدلال على وجوب الختان بكونه من خصال الفطرة ، لأن في خصالها ما لا يجب على عموم المسلمين ، و فيها ما يفرق فيه بين الذكر و الأنثى كقص الشارب ، و هذا صارف عن القول بوجوب الختان .
ثانياً : لو كان الختان واجباً لما تساهل فيه من تساهل ، و لوجب إلزام حديث العهد بالإسلام به ، من غير تخيير ، مع أن الحديث الوارد في ذلك ضعيف مرسل ، و هذا ما لم يقع ، و لا يستقيم وقوعه .
قال الموفق ابن قدامة [ في المغني : 1 / 63 ] : ( و الحسن يرخص فيه - أي في ترك الختان - يقول : إذا أسلم لا يبالي أن لا يختتن ، و يقول : أسلم الناس الأسودُ و الأبيضُ ؛ لم يُفَتَّش أحدٌ منهم ، و لم يَخْتَتِنوا ) .
و قال ابن المنذر [ كما نقل عنه الشوكاني ، في نيل الأوطار : 1 / 138 ] : ( لَيْسَ فِي الْخِتَانِ خَبَرٌ يُرْجَعُ إلَيْهِ ، وَ لا سَنَدٌ يُتَّبَعُ ) و نقل عنه نحو ذلك الحافظ في الفتح .
فهذا التساهل في أمر الختان لو كان واجباً لما كان متصوراً من أئمة أعلام أن يتساهلوا في أمره على هذا النحو .
قلتُ : و لما كان بعيداً عن ابن المنذر رحمه الله أن تفوته أخبار الختان مع أن منها ما رواه الشيخان و غيرهما ، و اشتهر عند الفقهاء و سائر العلماء ، تعيَّن أن يُحمَل كلامه هذا على أخبار ختان الإناث ، و الله أعلم .
و عليه فإن الأمر لا يعدو أن يكون سنة ، و خصلة من خصال الفطرة يندب المسلم إلى فعلها ذكراً كان أم أنثى ، من غير نكير على من تركه ، إلا أن يكون من باب النهي عن ترك السنن ، أو الاستهانة بها ، أو إنكارها ، أو ردهها ، فالأمر حينئذ أمر بلزوم السنة ، و ليس بالاختتان خاصة .
أما من فرَّق في الحكم بين الذكور و الإناث ، فجعله واجباً على الذكور ، مستحباً للنساء فقد قيَّد كل ما ساقه موجبو الختان على الجنسين بكونه في حق الذكر دون الأنثى ، و استدل على التقييد بأمور منها :
أوَّلاً : أن ختان النساء كان معروفاً قبل الإسلام ، و بلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم ، فأقرَّه ، و أرشد الخافضة إلى ما ينبغي أن تراعيه في عمَلها ، و هذا يجعله – على أقل تقدير – من قبيل السنَّة التقريرية ، و كفى به دليلاً على الاستحباب .
روى أبو داود في كتاب الأدب من سننه بإسناد فيه محمد بن حسان الكوفي ، و هو ضعيف الحديث ، عن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها أن امرأة كانت تختن بالمدينة ، فقال لها النبي صلى الله عليه و سلم : ( لا تنهكي ! فإنه أحظى للمرأة ، و أحب إلى البعل ) .
و للحديث طريق أخرى أوردها الشيخ الألباني رحمه الله في سلسلة الأحاديث الصحيحة[ 921 ] و حكم عليها بالصحة ثمَّ .
و إذ صح هذا الحديث فإن في إقرار النبي صلى الله عليه و سلم للخافضة على فعلها ، و توجيهها إلى ما يصلح لبنات جنسها من صفة الخفاض يدل على استحبابه .
و قد أبعدَ الشقَّةَ من فرَّق في حكم الختان بين الذكر و الأنثى إذ استدل بحدث : ( الختان سنة للرجال مكرمة للنساء ) الذي رواه أحمد و الطبراني ، و في ضعفه ما يسقط الاحتجاج به ، و يكفي مؤونة الرد على مورده في معرض الاستدلال .
الترجيح :
بعد النظر في أقوال أهل العلم الثلاثة المتقدمة ، و أدلة كل قول منها ، يظهر – و الله أعلم – أن نصوص الشريعة تحث على الختان باعتبارات منها كونه من سنن النبيين ، و من خصال الفطرة ، غير أن هذا لا يرقى إلى حد الإيجاب ، إذ إن الإيجاب حكم تكليفي لا بد له من نص صريح يحسم مادة الخلاف ، بل الراجح هو الثابت ، و ليس فيما ثبت ما يدل على أكثر من كون الختان سنة ، و هذا ما يترجح لنا ، و الله أعلم .
أما عن التفريق في الحكم بين الذكر و الأنثى فيفتقر إلى دليل ، إذ إنه من قبيل تقييد المطلق ، و هو حق للشارع الحكيم و حسب .
و عليه فلا أرى وجهاً لمن فرَّق في حكم الختام بين الجنسين ، بل يظل الحكم سنة في حقهما ، و الله أعلم .
قال الإمام الشوكاني رحمه الله : ( و الحق أنه لم يقم دليل صحيح يدل على الوجوب ، و المتيقن السنّة ، و الواجب الوقوف على المتيقن إلى أن يقوم ما يوجب الانتقال عنه ) [ نيل الأوطار للشوكاني : 1 / 139 و ما بعدها ] .
هذا ، و الله أعلم ، و أحكم ، و صلى الله و سلم و بارك على نبيه محمد و آله و صحبه و سلم .
منقول